إلى ماذا ندعو ؟
لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى
الحمد لله ... وبعد : فإن الله سبحانه دلنا على نفسه الكريمة بما أخبرنا به في كتابه العزيز، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وبذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل، فقال تعالى: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ﴾، وقال: ﴿ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، والشرائع مختلفة » [البخاري: (3443)] فجميع الرسل متفقون في الدين الجامع في الأصول الاعتقادية والعلمية؛ كالإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، والعملية؛ كالأعمال العامة المذكورة في سورة الأنعام والأعراف وبني إسرائيل وهو قوله تعالى: ﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ الآيات الثلاث، وقوله: ﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ الآية وقوله: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ﴾ الآية وقوله: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ إلى آخر الوصايا وقوله: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ﴾ الآية.
فالدعوة والعبادة اسم جامع لغاية الحب لله وغاية الذل له، فمن ذلّ له من غير حب لم يكن عابداً، بل يكون هو المحبوب المطلق؛ فلا يحب شيئا إلا له، ومن أشرك غيره في هذا وهذا لم يجعل له حقيقة الحب فهو مشرك، وإشراكه يوجب نقص الحقيقة، كقوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴾ الآية .
والحب يوجب الذل والطاعة، والإسلام : أن يستسلم لله لا لغيره، فمن استسلم له ولغيره فهو مشرك، ومن لم يستسلم له فهو متكبر، وكلاهما ضد الإسلام.
والقلب لا يصلح إلا بعبادة الله وحده، وتحقيق هذا تحقيق الدعوة النبوية.
ومن المحبة الدعوة إلى الله ؛ وهي الدعوة إلى الإيمان به وبما جاءت به رسله بتصديقهم فيما أخبروا به وطاعتهم بما أمروا به، فالدعوة إليه من الدعوة إلى الله تعالى، وما أبغضه الله ورسوله فمن الدعوة إلى الله؛ النهي عنه، ومن الدعوة إلى الله؛ أن يفعل العبد ما أحبه الله ورسوله، ويترك ما أبغضه الله ورسوله من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أسماء الله وصفاته ومن سائر المخلوقات؛ كالعرش والكرسي والملائكة والأنبياء، وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
والدعوة إلى الله واجبة على من اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم وهم أمته، وقد وصفهم الله بذلك؛ كقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ فهذه في حقه صلى الله عليه وسلم، وفي حقهم قوله: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ الآية، وقوله: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ الآية.
وهذا الواجب واجب على مجموع الأمة: وهو فرض كفاية يسقط عن البعض بالبعض كقوله: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ فجميع الأمة تقوم مقامه في الدعوة؛ فبهذا إجماعهم حجة، وإذا تنازعوا في شيء ردوه إلى الله ورسوله، فإذا تقرر هذا فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحب الله ورسوله، وأن يبغض ما أبغضه الله ورسوله مما دل عليه في كتابه، فلا يجوز لأحد أن يجعل الأصل في الدين لشخص إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لقول إلا لكتاب الله عز وجل.
ومن نصب شخصا كائنا من كان فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو ﴿ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ﴾ الآية وإذا تفقه الرجل وتأدب بطريقة قوم من المؤمنين مثل أتباع الأئمة والمشايخ، فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم العيار، فيوالي من وافقهم ويعادي من خالفهم، فينبغي للإنسان أن يعود نفسه التفقه الباطن في قلبه والعمل به فهذا زاجر. وكمائن القلوب تظهر عند المحن.
وليس لأحد أن يدعو إلى مقالة أو يعتقدها؛ لكونها قول أصحابه، ولا يناجز عليها، بل لأجل أنها مما أمر الله به ورسوله، أو أخبر الله به ورسوله؛ لكون ذلك طاعة لله ورسوله.
وينبغي للداعي أن يقدم فيما استدلوا به من القرآن، فإنه نور وهدى، ثم يجعل إمام الأئمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كلام الأئمة.
ولا يخلو أمر الداعي من أمرين :
الأول : أن يكون مجتهداً أو مقلداً، فالمجتهد ينظر في تصانيف المتقدمين من القرون الثلاثة، ثم يرجح ما ينبغي ترجيحه.
الثاني : المقلد يقلد السلف؛ إذ القرون المتقدمة أفضل مما بعدها.
فإذا تبين هذا فنقول كما أمرنا ربنا : ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ ونأمر بما أمرنا به، وننهى عما نهانا عنه في نص كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾، فمبنى أحكام هذا الدين على ثلاثة أقسام: الكتاب، والسنة، والإجماع.
0 التعليقات: