السر الأعظم
للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله
ما هو السر الأعظم، الذي لا تقتحمه العبارة، ولا تجسر عليه الإشارة، ولا ينادي عليه المنادي على رءوس الأشهاد، بل شهدته قلوب الخواص فازدادت به معرفة ومطالعة له.
وقد كان الأولى بنا طَيُّ الكلام فيه إلى ما هو اللائق بأفهامِ بني الزمان وعلومهم، ونهاية أقدامِهم من المعرفة، وضعف عقولهم عن احتماله،
غير أنّا نعلم أن الله عز وجل سيسوق هذه البضاعة إلى تجارها، ومن هو عارف بقدرها، وإن وقعت في الطريق بيد من ليس عارفا بها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.
فاعلم أن الله سبحانه وتعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرّمه وفضّله وشرّفه، وخلقه لنفسه، وخلق كلَّ شيء له، وخصّه من معرفته ومحبته وقُربه وإكرامه بما لم يُعطه غيره، وسَخَّر له ما في سماواته وأرضه وما بينهما، حتى ملائكته - الذين هم أهل قربه - استخدمهم له، وجعلهم حفظة له في منامه ويقظته وظعنه وإقامته، وأنزل إليه وعليه كتبه، وأرسله وأرسل إليه، وخاطبه وكلمه منه إليه، واتخذ منهم الخليل والكليم، والأولياء والخواص والأحبار، وجعلهم معدن أسراره، ومحلَّ حكمته، وموضع حبه، وخلق لهم الجنة والنار، فالخلق والأمر والثواب والعقاب مداره على النوع الإنساني؛ فإنه خلاصة الخلق، وهو المقصود بالأمر والنهي، وعليه الثواب والعقاب.
فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات، وقد خلق أباه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلَّمه أسماء كل شيء، وأظهرَ فضله على الملائكة فمن دونهم من جميع المخلوقات، وطرد إبليس عن قربه وأبعده عن بابه إذ لم يسجد له مع الساجدين، واتخذه عدوا له.
فالمؤمن من نوع الإنسان: خير البرية على الإطلاق، وخيرة الله من العالمين، فإنه خلقه ليتم نعمته عليه، وليتواتر إحسانه إليه، وليخصه من كرامته وفضله بما لم تنله أمنيته، ولم يخطر على باله، ولم يشعر به، ليسأله من المواهب والعطايا الباطنة والظاهرة العاجلة والآجلة التي لا تنال إلا بمحبته، ولا تنال محبته إلا بطاعته، وإيثاره على ما سواه، فاتخذه محبوبا له، وأعدَّ له أفضلَ ما يُعده محب غني قادر جواد لمحبوبه إذا قدم عليه، وعهد إليه عهداً تقدم إليه فيه بأوامره ونواهيه، وأعلمه في عهده ما يقربه إليه، ويزيده محبة له وكرامة عليه، وما يبعده منه، ويسخطه عليه، ويسقطه من عينه.
وللمحبوب عدو؛ هو أبغض خلقه إليه، قد جاهره بالعداوة، وأمر عباده أن يكون دينهم وطاعتهم وعبادتهم له، دون وليهم ومعبودهم الحق، واستقطع عباده، واتخذ منهم حزبا ظاهروه ووالوه على ربهم، وكانوا أعداء له مع هذا العدو، يدعون إلى سخطه، ويطعنون في ربوبيته وإلهيته ووحدانيته، ويسبونه، ويكذبونه، ويفتنون أولياءه، ويؤذونهم بأنواع الأذى، ويجهدون على إعدامهم من الوجود، وإقامة الدولة لهم، ومحو كل ما يحبه الله ويرضاه، وتبديله بكل ما يسخطه ويكرهه. فعرفه بهذا العدو وطرائقهم وأعمالهم ومالهم، وحذره موالاتهم والدخول في زمرتهم والكون معهم.
وأخبره في عهده: أنه أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين. وأنه سبقت رحمته غضبه، وحلمه عقوبته، وعفوه مؤاخذته، وأنه قد أفاض على خلقه النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وأنه يحب الإحسان والجود والعطاء والبر، وأن الفضل كله بيده، والخير كله منه، والجود كله له، وأحب ما إليه: أن يجود على عباده، ويوسعهم فضلا، ويغمرهم إحساناً وجوداً، ويتم عليهم نعمته، ويضاعف لديهم منته، ويتعرف إليهم بأوصافه وأسمائه، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه.
فهو الجواد لذاته، وجود كل جواد خلقه الله ويخلقه أبداً: أقل من ذرة بالقياس إلى جوده. فليس الجواد على الإطلاق إلا هو، وجود كل جواد فمن جوده، ومحبته للجود والإعطاء والإحسان والبر والإنعام والإفضال فوق ما يخطر ببال الخلق، أو يدور في أوهامهم، وفرحه بعطائه وجوده وإفضاله أشد من فرح الآخذ بما يعطاه ويأخذه، أحوج ما هو إليه أعظم ما كان قدراً. فإذا اجتمع شدة الحاجة وعظم قدر العطية والنفع بها، فما الظن بفرح المعطي؟ ففرح المعطي سبحانه بعطائه أشد وأعظم من فرح هذا بما يأخذه، ولله المثل الأعلى. إذ هذا شأن الجواد من الخلق؛ فإنه يحصل له من الفرح والسرور والابتهاج واللذة بعطائه وجوده فوق ما يحصل لمن يعطيه، ولكن الآخذ غائب بلذة أخذه عن لذة المعطي وابتهاجه وسروره، هذا مع كمال حاجته إلى ما يعطيه، وفقره إليه، وعدم وثوقه باستخلاف مثله، وخوف الحاجة إليه عند ذهابه، والتعرض لذل الاستعانة بنظيره ومن هو دونه، ونفسه قد طبعت على الحرص والشح.
فما الظن بمن تقدّس وتنزّه عن ذلك كله، ولو أن أهل سماواته وأرضه، وأول خلقه وآخرهم، وإنسهم وجنهم، ورطبهم ويابسهم، قاموا في صعيد واحد فسألوه، فأعطى كل واحد ما سأله، ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة.
وهو الجواد لذاته، كما أنه الحي لذاته، العليم لذاته، السميع البصير لذاته، فجوده العالي من لوازم ذاته، والعفو أحب إليه من الانتقام، والرحمة أحب إليه من العقوبة، والفضل أحب إليه من العدل، والعطاء أحب إليه من المنع.
فإذا تعرض عبده ومحبوبه الذي خلقه لنفسه، وأعد له أنواع كرامته، وفضّله على غيره، وجعله محل معرفته، وأنزل إليه كتابه، وأرسل إليه رسوله، واعتنى بأمره ولم يهمله ولم يتركه سدى، فتعرض لغضبه، وارتكب مساخطه، وما يكرهه، وأبِقَ منه، ووالى عدوه، وظاهره عليه، وتحيز إليه، وقطع طريق نعمه وإحسانه إليه، التي هي أحب شيء إليه، وفتح طريق العقوبة والغضب والانتقام؛ فقد استدعى من الجواد الكريم خلاف ما هو موصوف به من الجود والإحسان والبر، وتعرض لإغضابه وإسخاطه وانتقامه، وأن يصير غضبه وسخطه في موضع رضاه، وانتقامه وعقوبته في موضع كرمه وبره وعطائه، فاستدعى بمعصيته من أفعاله ما سواه أحب إليه منه، وخلاف ما هو من لوازم ذاته من الجود والإحسان.
فبينما هو حبيبه المقرب المخصوص بالكرامة، إذا انقلب آبقاً شارداً، راداً لكرامته، مائلا عنه إلى عدوه، مع شدة حاجته إليه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين.
فبينما ذلك الحبيب مع العدو في طاعته وخدمته، ناسيا لسيده، منهمكا في موافقة عدوه، قد استدعى من سيده خلاف ما هو أهله، إذ عرضت له فكرة، فتذكر بر سيده وعطفه وجوده وكرمه، وعلم أنه لا بد له منه، وأن مصيره إليه، وعرضه عليه، وأنه إن لم يقدم عليه بنفسه قدم به عليه على أسوأ الأحوال، ففر إلى سيده من بلد عدوه، وجدّ في الهرب إليه حتى وصل إلى بابه، فوضع خده على عتبة بابه، وتوسد ثرى أعتابه، متذللاً متضرعاً، خاشعاً باكياً، آسفا، يتملق سيده ويسترحمه، ويستعطفه ويعتذر إليه، قد ألقى بيده إليه، واستسلم له، وأعطاه قياده، وألقى إليه زمامه، فعلم سيده ما في قلبه، فعاد مكان الغضب عليه رضا عنه، ومكان الشدة عليه رحمة به، وأبدله بالعقوبة عفواً وبالمنع عطاءً، وبالمؤاخذة حلماً، فاستدعى بالتوبة والرجوع من سيده ما هو أهله، وما هو موجب أسمائه الحسنى وصفاته العليا، فكيف يكون فرح سيده به؟ وقد عاد إليه حبيبه ووليه طوعاً واختياراً، وراجع ما يحبه سيده منه برضاه، وفتح طريق البر والإحسان والجود التي هي أحبُّ إلى سيده من طريق الغضب والانتقام والعقوبة.
وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَلّهُ أشدُّ فْرَحا بتوبةِ عبده - حين يَتُوبُ إليه - من أحدِكم كان على راحلته بأرضٍ فلاةٍ فَانْفَلَتتْ منه، وعليها طعامُه وشرابهُ فَأَيسَ منها، فأتَى شَجرة فاضطَجَع في ظِلِّها قد أيسَ من راحلته فبينا هو كذلك، إذا هو بها قائمةٌ عنده، فأخذ بخِطامِها، ثم قال من شِدَّة الفرح: "اللهم أنت عَبْدي وأنا ربكَ"، أخطأ من شدة الفرح» هذا لفظ مسلم
وهذا موضع الحكاية المشهورة عن بعض العارفين: أنه حصل له شرود وإباق من سيده، فرأى في بعض السكك باباً قد فُتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمه خلفه تطرده، حتى خرج فأغلقت الباب في وجهه ودخلت، فذهب الصبي غير بعيد، ثم وقف مفكراً فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أُخرج منه، ولا من يؤيه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزيناً، فوجد الباب مرتجاً، فتوسده؛ ووضع خده على عتبة الباب ونام، فخرجت أمه، فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه، والتزمته تقبله وتبكي، وتقول: يا ولدي، أين تذهب عني؟ ومن يؤيك سواي؟ ألم أقل لك: لا تخالفني، ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبلت عليه من الرحمة بك، والشفقة عليك، وإرادتي الخير لك، ثم أخذته ودخلت.
فتأمل قول الأم: "لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جُبلت عليه من الرحمة والشفقة".
وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم: « لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها » وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء ؟
فإذا أغضبه العبد بمعصيته فقد استدعى منه صرف تلك الرحمة عنه، فإذا تاب إليه فقد استدعى منه ما هو أهله وأولى به.
فهذه نبذة يسيرة تطلعك على سر فرح الله بتوبة عبده أعظم من فرح هذا الواجد لراحلته في الأرض المهلكة بعد اليأس منها.
ووراء هذا ما تجفو عنه العبارة، وتدق عن إدراكه الأذهان.
0 التعليقات: