احذر أصدقائك كما تحذر أعدائك
لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
لا يكون العبد عبداً لله خالصاً مخلصاً دينه لله كله، حتى لا يكون عبداً لما سواه، ولا فيه شعبة ولا أدنى جزء من عبودية ما سوى الله، فإذا كان يرضيه ويسخطه غير الله فهو عبد لذلك الغير، ففيه من الشرك بقدر محبته ...
وكذلك الذين يحبون العبد كأصدقائه، والذين يبغضونه كأعدائه؛ فالذين يحبونه يجذبونه إليهم، فإذا لم تكن المحبة منهم له لله كان ذلك مما يقطعه عن الله. والذين يبغضونه يؤذونه ويعادونه فيشغلونه بأذاهم عن الله، ولو أحسن إليه أصدقاؤه الذين يحبونه لغير الله أوجب إحسانهم إليه محبته لهم وانجذاب قلبه إليهم ولو كان على غير الاستقامة، وأوجب مكافأته لهم فيقطعونه عن الله وعبادته.
فلا تزول الفتنة عن القلب إلا إذا كان دين العبد كله لله عز وجل؛ فيكون حبه لله ولما يحبه الله، وبغضه لله ولما يبغضه الله، وكذلك موالاته ومعاداته، وإلا فمحبة المخلوق تجذبه، وحب الخلق له سبب يجذبهم به إليه، ثم قد يكون هذا أقوى وقد يكون هذا أقوى، فإذا كان هو غالباً لهواه، لم يجذبه مغلوب مع هواه، ولا محبوباته إليها؛ لكونه غالباً لهواه ناهياً لنفسه عن الهوى، لما في قلبه من خشية الله ومحبته التي تمنعه عن انجذابه إلى المحبوبات.
وأما حُب الناس له فإنه يوجب أن يجذبوه لهم بقوتهم إليهم، فإن لم يكن فيه قوة يدفعهم بها عن نفسه من محبة الله وخشيته وإلا جذبوه وأخذوه إليهم ...
فالغالب على الناس في المحبة من الطرفين أنه يقع بعض الشر بينهم، والمعصوم من عصمه الله ...
وقد يحبونه لعلِمه أو دينه أو إحسانه أو غير ذلك؛ فالفتنة في هذا أعظم؛ إلا إذا كانت فيه قوة إيمانية، وخشية، وتوحيد تام؛ فإن فتنة العلم والجاه والصور فتنة لكل مفتون. وهم مع ذلك يطلبون منه مقاصدهم إن لم يفعلها وإلا نقص الحب. أو حصل نوع بغض، وربما زاد أو أدّى إلى الانسلاخ من حبه فصار مبغوضاً بعد أن كان محبوبا.
فأصدقاء الإنسان يحبون استخدامه واستعماله في أغراضهم حتى يكون كالعبد لهم، وأعداؤه يسعون في أذاه وإضراره، وأولئك يطلبون منه انتفاعهم وإن كان مضراً له، مفسداً لدينه، لا يفكرون في ذلك. وقليل منهم الشكور. فالطائفتان في الحقيقة لا يقصدون نفعه، ولا دفع ضرره، وإنما يقصدون أغراضهم به، فإن لم يكن الإنسان عابداً لله متوكلا عليه، مواليا له ومواليا فيه، ومعاديا، وإلا أكلته الطائفتان وأدى ذلك إلى هلاكه في الدنيا والآخرة. وهذا هو المعروف من أحوال بني آدم وما يقع بينهم من المحاربات والمخاصمات والاختلاف والفتن. قوم يوالون زيدا ويعادون عمرا. وآخرون بالعكس؛ لأجل أغراضهم فإذا حصلوا على أغراضهم ممن يوالونه وما هم طالبونه من زيد انقلبوا إلى عمرو، وكذلك أصحاب عمرو كما هو الواقع بين أصناف الناس.
وكذلك " الرأس " من الجانبين يميل إلى هؤلاء الذين يوالونه، وهم إذا لم تكن الموالاة لله أضرّ عليه من أولئك؛ فإن أولئك إنما يقصدون إفساد دنياه: إما بقتله، أو بأخذ ماله، وإما بإزالة منصبه، وهذا كله ضرر دنيوي لا يعتد به إذا سلم العبد، وهو عكس حال أهل الدنيا ومحبيها الذين لا يعتدون بفساد دينهم مع سلامة دنياهم. فهم لا يبالون بذلك. وأما " دين العبد " الذي بينه وبين الله فهم لا يقدرون عليه. وأما أولياؤه الذين يوالونه للأغراض فإنما يقصدون منه فساد دينه بمعاونته على أغراضهم وغير ذلك، فإن لم يفعل انقلبوا أعداء. فدخل بذلك عليه الأذى من " جهتين " :
من جهة مفارقتهم .
ومن جهة عداوتهم .
وعداوتهم أشد عليه من عداوة أعدائه؛ لأنهم قد شاهدوا منه، وعرفوا ما لم يعرفه أعداؤه. فاستجلبوا بذلك عداوة غيرهم فتتضاعف العداوة. وإن لم يحب مفارقتهم احتاج إلى مداهنتهم ومساعدتهم على ما يريدونه وإن كان فيه فساد دينه. فإن ساعدهم على نيل مرتبة دنيوية ناله مما يعملون فيها نصيباً وافراً وحظاً تاماً من ظلمهم وجورهم، وطلبوا منه أيضاً أن يعاونهم على أغراضهم ولو فاتت أغراضه الدنيوية. فكيف بالدينية إن وجدت فيه أو عنده، فإن الإنسان ظالم جاهل لا يطلب إلا هواه. فإن لم يكن هذا في الباطن يحسن إليهم ويصبر على أذاهم. ويقضي حوائجهم لله، وتكون استعانته عليهم بالله تامة، وتوكله على الله تام. وإلا أفسدوا دينه ودنياه، كما هو الواقع المشاهد من الناس ممن يطلب الرئاسة الدنيوية؛ فإنه يطلب منه من الظلم والمعاصي ما ينال به تلك الرئاسة ويحسّن له هذا الرأي، ويعاديه إن لم يقم معه، كما قد جرى ذلك مع غير واحد. وذلك يجري فيمن يحب شخصاً لصورته فإنه يخدمه ويعظمه ويعطيه ما يقدر عليه ويطلب منه من المحرم ما يفسد دينه.
وفيمن يحب صاحب "بدعة" لكونه له داعية إلى تلك البدعة يحوجه إلى أن ينصر الباطل الذي يعلم أنه باطل. وإلا عاداه ولهذا صار علماء الكفار وأهل البدع مع علمهم بأنهم على الباطل ينصرون ذلك الباطل؛ لأجل الأتباع والمحبين ويعادون أهل الحق ويهجنون طريقهم.
فمن أحب غير الله، ووالى غيره؛ كره محب الله ووليه. ومن أحب أحداً لغير الله؛ كان ضرر أصدقائه عليه أعظم من ضرر أعدائه؛ فإن أعداءه غايتهم أن يحولوا بينه وبين هذا المحبوب الدنيوي، والحيلولة بينه وبينه رحمةً في حقه، وأصدقاؤه يساعدونه على نفي تلك الرحمة وذهابها عنه، فأي صداقة هذه! ويحبون بقاء ذلك المحبوب ليستعملوه في أغراضهم وفيما يحبونه، وكلاهما ضرر عليه. قال تعالى: ﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ﴾. قال الفضيل بن عياض عن ليث عن مجاهد: هي المودات التي كانت لغير الله، والوصلات التي كانت بينهم في الدنيا ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾. فالأعمال التي أراهم الله حسرات عليهم: هي الأعمال التي يفعلها بعضهم مع بعض في الدنيا كانت لغير الله، ومنها الموالاة والصحبة والمحبة لغير الله. فالخير كله في أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
0 التعليقات: