الأمر بقتال الخوارج والنهي عن قتال الأمراء الظلمة
لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
المعاصي التي يعرف صاحبها أنه عاص يتوب منها، والمبتدع الذي يظن أنه على حق كالخوارج(1) والنواصب الذي نصبوا العداوة والحرب لجماعة المسلمين فابتدعوا بدعة، وكفروا من لم يوافقهم عليها، فصار بذلك ضررهم على المسلمين أعظم من ضرر الظلمة، الذين يعلمون أن الظلم محرم، وإن كانت عقوبة أحدهم في الآخرة لأجل التأويل قد تكون أخف، لكن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -بقتالهم، ونهى عن قتال الأمراء الظلمة، وتواترت عنه بذلك الأحاديث الصحيحة.
فقال في الخوارج: « يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وقراءته مع قراءتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم ».
وقال في بعضهم: « يقتلون أهل الإيمان، ويدعون أهل الأوثان ».
وقال للأنصار: « إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض »، أي: تلقون من يستأثر عليكم بالمال ولا ينصفكم، فأمرهم بالصبر، ولم يأذن لهم في قتالهم.
وقال أيضا: « سيكون عليكم بعدي أمراء يطلبون منكم حقكم، ويمنعونكم حقهم ». قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: « أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم ».
وقال: « من رأى من أميره شيئا فليصبر عليه؛ فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ».
وقال: « من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية ».
وقال: « خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم ». قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: « لا ما صلوا ».
وهذه الأحاديث كلها في الصحيح، إلى أحاديث أمثالها.
فهذا أمره بقتال الخوارج، وهذا نهيه عن قتال الولاة الظلمة. وهذا مما يستدل به على أنه ليس كل ظالم باغ يجوز قتاله.
ومن أسباب ذلك أن الظالم الذي يستأثر بالمال والولايات لا يقاتل في العادة إلا لأجل الدنيا، يقاتله الناس حتى يعطيهم المال والولايات، وحتى لا يظلمهم، فلم يكن أصل قتالهم ليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة الله هي العليا، ولا كان قتالهم من جنس قتال المحاربين قطاع الطريق، الذين قال فيهم: « من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد » لأن أولئك معادون لجميع الناس، وجميع الناس يعينون على قتالهم، ولو قدر أنه ليس كذلك العداوة والحرب، فليسوا ولاة أمر قادرين على الفعل والأخذ، بل هم بالقتال يريدون أن يأخذوا أموال الناس ودماءهم، فهم مبتدءون الناس بالقتال، بخلاف ولاة الأمور فإنهم لا يبتدءون بالقتال للرعية.
وفرق بين من تقاتله دفعا وبين من تقاتله ابتداء. ولهذا هل يجوز في حال الفتنة قتال الدفع؟ فيه عن أحمد روايتان لتعارض الآثار والمعاني.
وبالجملة العادة المعروفة أن الخروج على ولاة الأمور يكون لطلب ما في أيديهم من المال والإمارة، وهذا قتال على الدنيا.
ولهذا قال أبو برزة الأسلمي عن فتنة ابن الزبير، وفتنة القراء مع الحجاج، وفتنة مروان بالشام: هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء إنما يقاتلون على الدنيا، وأما أهل البدع كالخوارج فهم يريدون إفساد دين الناس، فقتالهم قتال على الدين.
والمقصود بقتالهم أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله. فلهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا، ونهى عن ذلك.
ولهذا كان قتال علي رضي الله عنه للخوارج ثابتا بالنصوص الصريحة، وبإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وسائر علماء المسلمين. وأما قتال الجمل وصفين فكان قتال فتنة، كرهه فضلاء الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر العلماء، كما دلت عليه النصوص. حتى الذين حضروه كانوا كارهين له، فكان كارهه في الأمة أكثر وأفضل من حامده.
وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه «أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم مالا فجاء ذو الخويصرة التميمي، وهو محلوق الرأس، كث اللحية، ناتئ الجبين، بين عينيه أثر السجود، فقال: يا محمد اعدل فإنك لم تعدل. فقال: « ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ » ثم قال: « أيأمنني من في السماء ولا تأمنوني؟ » فقال له: بعض الصحابة: دعني أضرب عنقه. فقال: « يخرج من ضئضئ هذا أقوام يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم » الحديث.
فهذا كلامه في هؤلاء العباد لما كانوا مبتدعين. وثبت عنه في الصحيح «أن رجلا كان يشرب الخمر، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما أتي به إليه جلده الحد، فأتي به إليه مرة فلعنه رجل، وقال: ما أكثر ما يؤتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: « لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله » فنهى عن لعن هذا المعين المدمن الذي يشرب الخمر، وشهد له بأنه يحب الله ورسوله، مع لعنة شارب الخمر عموما.
فعلم الفرق بين العام المطلق والخاص المعين، وعلم أن أهل الذنوب الذين يعترفون بذنوبهم أخف ضررا على المسلمين من أمر أهل البدع الذين يبتدعون بدعة يستحلون بها عقوبة من يخالفهم.
0 التعليقات: