فالله عزَّ وجلَّ يأمر المؤمنين الذين آمنوا تصديقًا بقلوبهم
أن يتبعوا هذا التصديق بعمل وتطبيق واقعي ؛ حتى يُبرهنوا على صدق إيمانهم
كما إنه يأمرهم بأن يستمروا على هذا الإيمان عن طريق تجديده في كل وقت حتى يُختم لهم به
وكما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :
" إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب ، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم "
[ رواه الطبراني وصححه الألباني ، صحيح الجامع (1590) ]
لذا فإن التوبة هي وظيفة العمر
كما في قوله تبارك وتعالى : { .. وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ النور : 31 ]
وهذا أمر للجميع بالتوبة ومن جرائها تجديد الإيمان فالمذنب يتوب بالعودة إلى الطاعة
والمُطيع يتوب حتى لا يُعجَب بعمله ويعلم طوال الوقت إن ما هو فيه من طاعة إنما هو من توفيق الله عزَّ وجلَّ له
القاعدة الثانية : الإيمان هو مصدر الطاقة والحارس والحامي لصاحبه
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم
فقال له رجل : إنك تواصل يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟
قال : " وأيكم مثلي ؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني " [ متفق عليه ]
ويُعلِق الحافظ بن حجر على هذا الحديث ، قائلاً :
" وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِقَوْلِهِ " يُطْعِمنِي وَيَسْقِينِي "
أَيْ : يَشْغَلُنِي بِالتَّفَكُّرِ فِي عَظَمَته وَالتَّمَلِّي بِمُشَاهَدَتِهِ وَالتَّغَذِّي بِمَعَارِفِهِ وَقُرَّة الْعَيْن بِمَحَبَّتِهِ
وَالِاسْتِغْرَاق فِي مُنَاجَاته وَالْإِقْبَال عَلَيْهِ عَنْ الطَّعَام وَالشَّرَاب " [ فتح الباري (6:232) ]
فكأن حلاوة الإيمان التي في القلب قد أمدته بالقوة التي أغنته عن الاحتياج للأكل والشرب فإذا ملأ الإيمان قلبك
سيمدك بالقوة التي تواجهي بها الفتن من حولك ، وسيحرسك إيمانك ويحميكي من الوقوع في الإهمال والتقصير .
القاعدة الثالثة : الإيمان يزيد وينقص ، وكلما زاد زادت قوتك وكلما نقص نقصت قوت
فإيمانك يزداد بالطاعة والإقبال على الله عزَّ وجلَّ وينقُص بالمعصية ، لكنه لا يظل ثابتًا أبدًا
والطاعة لا تقتصر على الطاعات الظاهرة؛ كالصلاة والصيام وتلاوة القرآن وإنما هناك طاعة باطنة
وهي أعمال القلوب التي قلما يهتم بها أحد في عصرنا المادي الذي يحسب كل شيء بالعقل والحسابات الرياضية
وهناك علاقة وثيقة بين الطاعات الظاهرة والباطنة
يقول ابن القيم - [ الفوائد ( 222 : 1) ] - :
" العبد دائمًا مُتقلب بين أحكام الأوامر وأحكام النوازل
فهو محتاج بل مضطر إلى العون عند الأوامر وإلى اللطف عند النوازل
وعلى قدر قيامه بالأوامر يحصل له من اللطف عند النوازل
فإن كَمُلَ القيام بالأوامر ظاهرًا وباطنًا ناله اللطف ظاهرًا وباطنًا
وإن قام بصورها دون حقائقها وبواطنها ناله اللطف في الظاهر وقل نصيبه من اللطف في الباطن "
فإمتثالك لأوامر الله عزَّ وجلَّ وتأديتك لعبادات الجوارح الظاهرة يعود عليك بثمرة في الباطن
مما يجعل لكِ حال مع الله سبحانه وتعالى، فتزدادي إقبالاً عليه وتستشعري الأنس به سبحانه وتعالى
فعندما يحل بكِ البلاء ، يُرسل الله عزَّ وجلَّ لكِ اللطف الباطني فتجدي سكينة وطمأنينة ورضا في قلبك
وهذه ثمرة معاملتك لله تعالى في الباطن .
إنما لو أكتفيتي بتأدية صور الأعمال فقط ، قل اللطف الباطني الذي يحل بكِ عند البلاء.
القاعدة الرابعة : الإيمان قول وعمل ، قول باللسان وقول بالقلب ، وعمل بالجوارح وعمل بالقلب
فقد تنطقين الشهادة بلسانك ، ولكن التصديق واليقين بها في قلبك قد يشوبه شائبة
فلو كان الله تعالى هو الكبير المُتعال في قلبك بحق ، لما تهاونتي في حقه ولما جعلتيه أهون الناظرين إليك !
ونحن في الغالب ننشغل بطاعات الجوارح ونهتز لمعاصيها وننسى طاعات القلوب ولا نلقي بالاً لمعاصيها
بينما معاصي القلوب من كِبر وعُجب وشُح وحب المال والجاه والدنيا والحسد والغضاء وغيرها
هي المُهلكات الحقيقية .
ولقد نهى الله تعالى عن الوقوع في المعاصي الظاهرة منها والباطنة
فقال تعالى : { وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ } [ الأنعام : 120 ]
وتوَّعد من يقع فيها بعقوبة من جنس عمله
فلو أن بداخل قلبك كبر ، سيذِلِك الله تعالى
ولو إنك مُعجبة بعملك ، ستقعي في الانتكاس والفتور ولن تتمكني من مواصلة هذا العمل الذي أُعجبتي به
فكل تلك المعاصي الباطنة ، ستمزق فيكِ وستدركي خطرها ،،
خطر معاصي القلوب
إن المعاصي الباطنة أخطر من المعاصي الظاهرة لأنها تتعلق بالقلب فعليكِ أن تدركي ذلك جيدًا
وتسعي جاهدة لإصلاح باطنك ، وإليكِ الدلائل على مدى خطورة معاصي القلوب :
أولاً : فساد القلب يترتب عليه فساد سائر الجسد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " .. ألا وإن في الجسد مضغة
إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب " [ متفق عليه ]
فلو أطعتي الرحمن بقلبك، ستوفقي لطاعات في الظاهر
أما لو عصيتيه بقلبك ، فسيترتب على ذلك أن تتعثري في الطريق وتعاني من التشتت والتردد
فمعصية قلبك هي سبب عدم استقامتك على الطريق
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " [ رواه مسلم ]
ثانيًا : الذنوب الظــاهرة سببها الذنوب البــــاطنة
فأي معصية ظاهرة تقعي فيها ، سببها آفة مُترسخة داخل القلب
فالحسد هو الذي أوقع اليهود في الكفر بملة محمد صلى الله عليه وسلم ..
يقول تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا
حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ .. } [ البقرة : 109 ]
والكبر جعل فرعون وملأه يكفرون بدعوة موسى عليه السلام
يقول الله عزَّ وجلَّ :
{ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [ النمل : 14 ]
وحتى ذنوب الشهوات كإطلاق البصر ، سببها القلب
يقول تعالى :
{ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } [ النور : 30 ]
فالخبير: هو المطلع على سرائر الأمور وخفاياها سبحانه وتعالى
مما يدل على إن إطلاق البصر أصله آفة باطنة في القلب وحينما زاغ القلب زاغت العين
فطالما القلب من داخله خراب ، سيجر صاحبه إلى جميع أنواع المعاصي !
ثالثًا : التوبة من المعاصي الباطنة أصعب بكثير من التوبة من المعاصي الظاهرة ..
فالمعاصي الظاهرة التي سببها ضعف الإنسان وغفلته تكون واضحة أمام الجميع ومن السهل عليه أن يتوب منها
أما المعاصي الباطنة فلا تظهر لأحد وإن ظهرت لا يُلقي لها بالاً ويصعب عليه التوبة منها إلا من رحم الله
فآدم عليه السلام كانت معصيته ظاهرة ، أن أكل من الشجرة ، فكانت التوبة عليه يسيرة
{ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الأعراف : 23 ]
أما إبليس فكانت معصيته في القلب ، فاستمر في غلوه وتمرده
{ .. إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [ البقرة : 34 ]
فمن تاب الله عليه من معاصي الباطن
وفِقَ إلى التوبة النصوح وأجتمعت له التوبة من المعاصي الظاهرة والباطنة ،،
رابعًا : معاصي القلوب وآفات النفوس أشد تحريمًا من الكبائر الظاهرة
يقول ابن القيم :
" والمعصية نوعان : كبـــــائر وصغــائر
فالكبائر : كالرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله
والأمن من مكر الله والفرح والسرور بأذى المسلمين والشماتة بمصيبتهم ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم
وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله وتمنى زوال ذلك عنهم وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريمًا من الزنا
وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة ، ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها والتوبة منها
وإلا فهو قلب فاسد وإذا فسد القلب فسد البدن " [ مدراج السالكين ( 11 : 8 ) ]
فاعلمي أن البداية من قلبك
لو طهرتيه من آفاته ، سُيعينك الله عزَّ وجلَّ على التخلُص من بقية المعاصي
0 التعليقات: